سورة النساء - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يا} حرف نداء {أي} منادى مفرد- و{ها} تنبيه، و{الناس}- نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش، والرب: المالك، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد، وقال: {واحدة} على تأنيث لفظ النفس، وهذا كفول الشاعر: [الوافر]
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى *** وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
وقرأ ابن أبي عبلة- {من نفس واحد} بغير هاء، وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، والخلق في الآية: بمعنى الاختراع، ويعني بقوله: {زوجها} حواء، والزوج في كلام العرب: امرأة الرجل، ويقال زوجة، ومنه بيت أبي فراس: [الطويل]
وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي *** كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها
وقوله {منها}، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه فخلق منه حواء، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها» وكسرها طلاقها. وقال بعضهم: معنى {منها} من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه، ونفسها من جنس نفسه، و{بث} معناه: نشر، كقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] أي المنتشر، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين. و{الذي} في موضع نصب على النعت- و{تساءلون} معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم: أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه: {تساءلون به} حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله: {تتساءلون} فأبدلت التاء الثانية سيناً وأغمت في السين، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو، بخلاف عنه، وقرأ الباقون- {تساءلون}- بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة، قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا: طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس: قال العجاج: [الرجز]
لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ *** أشعثَ في هيكله مندسِّ
حنَّ إليها كَخَنِينِ الطَّسِّ ***
وقال ابن مسعود- {تسألون}- خفيفة بغير ألف، و{الأرحام} نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة، وعليها فسر ابن عباس وغيره، وقرأ عبد الله بن يزيد- والأرحامُ- بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره: والأرحام أهل أن توصل، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء- {والأرحامِ}- بالخفض عطفاً على الضمير، والمعنى عندهم: أنها يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض، قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز: مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر، كما قال: [البسيط]
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا *** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وكما قال: [الطويل]
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا *** وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ
واستهلها بعض النحويين، قال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
قال القاضي أبو محمد: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وقالت طائفة: إنما خفض- {والأرحامِ}- على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله: {إن الله كان عليكم رقيباً} وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده، وإن كان المعنى يخرجه- و{كان} في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط، بل المعنى: كان وهو يكون، والرقيب: بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة، وفي قوله {عليكم} ضرب من الوعيد، ولم يقل {لكم} للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب، لأنه يرتقب ذلك، ومنه قول أبي دؤاد: [مجزوء الكامل]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ...


{اليتامى}: جمع يتيم ويتيمة، واليُتْمُ في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُتمَ بعد بلوغ» وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر، وحكى اليتيم في الإنسان من جهة الأم، وقال ابن زيد: هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً وتأخذوا الكل ظلماً حراماً خبيثاً، فيجئ فعلكم ذلك تبدلاً، وقالت طائفة: هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام، والمعنى: إذا بلغوا وأونس منهم الرشد: وسماهم يتامى وهم قد بلغوا، استصحاباً للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم، {ولا تتبدلوا} قيل: المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف من ماله، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسندي والضحاك، وقيل: المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثاً، وتدعوا أموالكم طيباً، وقيل: معناه لا تتعجلوا أكل {الخبث} من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، قاله مجاهد وأبو صالح، و{الخبيث} و{الطيب}: إنما هو هنا بالتحليل والتحريم، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ- {ولا تبدلوا}- بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة، وقوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} استوى الأيتام في النهي عن أكل {أموالهم} كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين، والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه، وروي عن مجاهد أنه قال: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220] وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة، وقال ابن فورك عن الحسن: إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة، وقالت طائفة من المتأخرين {إلى} بمعنى مع، وهذا غير جيد، وروي عن مجاهد أن معنى الآية: ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تقريب للمعنى، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر، وقال الحذاق: {إلى} هي على بابها وهي تتضمن الإضافة، التقدير: لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل، كما قال تعالى: {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52، الصف: 14] أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في {إنه} عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر، والحوب الإثم، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، تقول: حاب الرجل يحوب حُوباً وحاباً وحَوْباً إذا أثم، قال أمية بن الأسكر: [الوافر]
وإنَّ مُهَاجِريْنِ تَكَنَّفَاهُ *** غَدَاتئذٍ لَقَدْ خَطِئا وَخَابَا
وقرأ الحسن: {حَوبا} بفتح الحاء، وهي لغة بني تميم، وقيل: هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج، فإن هذه الأربعة تفعل كله لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعة تفكهون، في قوله تعالى: {لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون} [الواقعة: 65] أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، بدليل قوله بعد ذلك: {إنّا لمغرمون بل نحن محرومون} [الواقعة: 66 و67] أي يقولون ذلك، وقوله: {كبيراً} نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} قال أبو عبيدة: {خفتم} هنا بمعنى أيقنتم، واستشهد بقول الشاعر: [دريد بن الصمة]: [الطويل]
فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بألفَي مُدَجَّجٍ ***
وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا، و{تقسطوا} معناه تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، وقرأ ابن وثاب والنخعي،- {ألا تَقْسطوا} بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة- لا- كأنه قال: {وإن خفتم} أن تجوروا، واختلف في تأويل الآية، فقالت عائشة رضي الله عنها، نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن في حقوقهن، وقاله ربيعة، وقال عكرمة: نزلت في قريش، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مالَ على مالِ يتيمه فتزوج منه، فقيل لهم: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، كانوا يتزوجون العشر وأكثر، فنزلت الآية في ذلك، أي كما تخافون {ألا تقسطوا في اليتامى} فكذلك فتحرجوا في النساء، {وانكحوا} على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه، وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى، وانكحوا على ما حد لكم، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير: {ما طاب}، معناه ما حل.
قال القاضي أبو محمد: لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن أبي عبلة، و{من طاب} على ذكر من يعقل، وحكى بعض الناس أن {ما} في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المنزع ضعف وقال {ما} ولم يقل- من- لأنه لم يرد تعيين من يعقل، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل، فكأنه قال: {فانكحوا الطيب} وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه، قال عليه السلام: من استطاع منكم الباءة فليتزوج و{مثنى وثلاث ورباع}: موضعها من الإعراب نصب على البدل من {ما طاب}، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي. وقال غيره: هي معدولة في اللفظ وفي المعنى، وأيضاً فإنها معدولة وجمع، وأيضاً فإنها معدولة مؤنثة، قال الطبري: هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام، وخطأ الزجاج هذا القول، وهي معدولة عن اثنين، وثلاثة، وأربعة، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود، وأنشد الزجاج لشاعر [ساعدة بن جؤيّة]: [الطويل]
ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُهُ *** ذِئابٌ تبغّي الناسَ مثْنى ومَوْحَد
فإنما معناه اثنين اثنين، وواحد واحداً، وكذلك قولك: جاء الرجال مثنى وثلاث، فإنما معناه: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي وربع ساقطة الألف، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر: على لسان الضب: [المجتث]
لا أشتهي أن أردّا *** إلا عراداً عردّا
وَعَنْكَثاً ملتبدّا *** وصَلَياناً بردّا
يريد بارداً. وقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} قال الضحاك وغيره: المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين، ويتوجه على قول من قال: إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته، أن يكون المعنى: ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم، أو تسرّوا منها، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره: فانكحوا واحدة. وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن: {فواحدةٌ} بالرفع على الابتداء، وتقدير الخبر: فواحدة كافية، أو ما أشبهه، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. و{ما ملكت أيمانكم} يريد به الإماء، والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها، ألا ترى أنها المنفقة، كما قال عليه السلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الأليَّةُ يميناً، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها.


{أدنى} معناه: أقرب، وهو من الدنو، وموضع- أن- من الإعراب نصب بإسقاط الخافض، والناصب أريحية الفعل الذي في {أدنى}، التقدير: ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا، و{تعولوا} معناه: تميلوا، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم، يقال: عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
بميزان قسط لا يخسُّ شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير عائل
يريد غير مائل، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم: إني لست بميزان لا أعول، ويروى بيت أبي طالب: له شاهد من نفسه غير عائل, وعال يعيل، معناه: افتقر فصار عالة، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقدح في هذا الزجاج وغيره، بأن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة، وقوله: {وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة} قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: إن الخطاب في هذه الآية للأزواج، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم، وقال أبو صالح: الخطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور.
قال القاضي أبو محمد: والآية تتناول هذه الفرق الثلاث، قرأ الجمهور الناس والسبعون {صَدٌقاتهن} بفتح الصاد وضم الدال، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم {صُدُقاتهن} بضم الصاد والدال، وقرأ قتادة وغيره {صُدْقاتهن} بضم الصاد وسكون الدال، وقرأ ابن وثاب والنخعي {صدقتهن} بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا صدَقة. و{نحلة}: معناه: نحلة منكم لهن أي عطية، وقيل التقدير: من الله عز وجل لهن، وذلك لأن الله جعل الصداق على الرجال ولم يجعل على النساء شيئاً، وقيل {نحلة} معناه: شرعة، مأخوذ من النحل تقول: فلان ينتحل دين كذا، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء، ويتجه مع سواه، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها، تقديره- انحلوهن نحلة، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك، وعلى أنها شريعة هي أيضاً من الله وقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن، والضمير في {منه} راجع على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره، أو على الإيتاء، وقال حضرمي: سبب الآية أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات، و{نفساً} نصب على التمييز، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل، وإجازة غيره في الكلام.
ومنه قول الشاعر [المخبل السعدي]: [الطويل]
وما كان نفساً بالفراق تطيب ***
و من- تتضمن الجنس ها هنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقفت من على التبعيض لما جاز ذلك، وقرئ {هنياً مرياً} دون همز، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري، قال الطبري: ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة، وكذلك المريء، قال اللغويون: يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا أفردوا قالوا: أمرني على وزن أفعل. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» فإنما اعتلت الواو من موزورات إتباعاً للفظ مأجورات، فكذلك مرأني اتباعاً لهنأني، ودخل رجل على علقمة- وهو يأكل شيئاً مما وهبته امرأته من مهرها- فقال له: كل من الهنيء المريء، قال سيبويه؛ {هنيئاً مريئاً} صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك {هنيئاً مريئاً}.
وقوله {ولا تؤتوا السفهاء} الآية، اختلف المتأولون في المراد ب {السفهاء}، فقال ابن مسعود والسدي والضحاك والحسن وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته، وقال سعيد بن جبير: نزلت في المحجورين {السفهاء} وقال مجاهد: نزلت في النساء خاصة، وروي عن عبد الله بن عمر أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} الآية، وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع، فإن العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات، وقوله {أموالكم} يريد أموال المخاطبين، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة، وقال سعيد بن جبير: يريد أموال {السفهاء}، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطاً بالأموال، أي هي لهم إذا احتاجوا، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم، وتصونكم وتعظم أقدراكم، ومن مثل هذا
{ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] وما جرى مجراه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والنخعي و{اللاتي} والأموال: طمع لما لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة، و{قيماً} جمع قيمة كديمة وديم، وخطأ ذلك أبو علي وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جميع جواد، وكما قالت بنو ضبة: طويل وطيال، ونحو هذا، وقوماً وقواماً وقياماً، معناها: ثباتاً في صلاح الحال، ودواماً في ذلك، وقرأ نافع وابن عامر {قيماً} بغير ألف، وروي أن أبا عمرو فتح القاف من قوله: قواماً، وقياماً- كان أصله قواماً، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب، ذكرها ابن مجاهد ولم ينسبها، وهي قراءة أبي عمرو والحسن، وقرأ الباقون {قياماً} وقرأت طائفة {قواماً} وقوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} قيل: معناه: فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر، وقيل: في المحجورين من أموالهم، و{معروفاً} قيل: معناه: ادعوا لهم: بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل: معناه عدوهم وعداً حسناً، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ومعنى اللفظ كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8